الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب ـ رحمه الله: إذا كان أكثر من القلتين فهو طاهر عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم. وإن كان دون القلتين، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره. ومذهب المدنيين وكثير من أهل الحديث أنه طاهر، كإحدى الروايتين عن أحمد،/ وهو اختيار طائفة من أصحابه: كابن عقيل، وغيره، وكذلك المائع إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فيه نزاع معروف، وقد بسط في موضع آخر. والأظهر أنه إذا لم يكن للنجاسة فيه أثر، بل استهلكت فيه ولم تغير له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، فإنه لا ينجس، والله ـ سبحانه ـ أعلم.
فأجاب: اللبن وغيره من المائعات هل يتنجس بملاقاة النجاسة أو حكمه حكم الماء؟ هذا فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، وكذلك مالك له في النجاسة الواقعة في الطعام الكثير هل تنجسه؟ فيه قولان. وأما ولوغ الكلب في الطعام، فلا ينجسه عند مالك، فهذا ـ على أحد قولى العلماء ـ لم ينجس، وعلى القول الآخر ينجس، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عن أصحابه، لكن عند هؤلاء هل يطهر/الدهن بالغسل؟ فيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان في مذهب مالك ـ أيضًا. فمن قال إن الأدهان تطهر بالغسل، قال بطهارته بالغسل، وإلا فلا، والله أعلم.
فأجاب: وأما الكلب فقد تنازع العلماء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه طاهر حتى ريقه، وهذا هو مذهب مالك. والثاني: نجس حتى شعره، وهذا هو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد. والثالث: شعره طاهر، وريقه نجس، وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهذا أصح الأقوال. فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أريق الماء. /وإن ولغ في اللبن ونحوه فمن العلماء من يقول: يؤكل ذلك الطعام، كقول مالك وغيره، ومنهم من يقول يراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأما إن كان اللبن كثيرًا فالصحيح أنه لا ينجس كما تقدم.
فأجاب: الحمد للَّه، أما الجبن المجلوب من بلاد الإفرنج، فالذين كرهوه ذكروا لذلك سببين: أحدهما: أنه يوضع بينه شحم الخنزير إذا حمل في السفن. والثاني: أنهم لا يذكون ما تصنع منه الأنفحة، بل يضربون رأس البقر ولا يذكونه. فأما الوجه الأول: فغايته أن ينجس ظاهر الجبن، فمتى كشط الجبن، أو غسل طهر، فإن ذلك ثبت في الصحيح: أن النبي/ صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم)، فإذا كان ملاقاة الفأرة للسمن لا توجب نجاسة جميعه، فكيف تكون ملاقاة الشحم النجس للجبن توجب نجاسة باطنه؟! ومع هذا، فإنما يجب إزالة ظاهره إذا تيقن إصابة النجاسة له، وأما مع الشك، فلا يجب ذلك. وأما الوجه الثاني: فقد علم أنه ليس كل ما يعقرونه من الأنعام يتركون ذكاته، بل قد قيل: أنهم إنما يفعلون هذا بالبقر. وقيل: إنهم يفعلون ذلك حتى يسقط، ثم يذكونه. ومثل هذا لا يوجب تحريم ذبائحهم، بل إذا اختلط الحرام بالحلال في عدد لا ينحصر ـ كاختلاط أخته بأهل بلد، واختلاط الميتة والمغصوب بأهل بلدة ـ لم يوجب ذلك تحريم ما في البلد، كما إذا اختلطت الأخت بالأجنبية، والمذكى بالميت، فهذا القدر المذكور لا يوجب تحريم ذبائحهم المجهولة الحال. وبتقدير أن يكون الجبن مصنوعًا من أنفحة ميتة، فهذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: أن ذلك مباح طاهر، كما هو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. والثاني: أنه حرام نجس: كقول مالك، والشافعي،وأحمد/في الرواية الأخرى، والخلاف مشهور في لبن الميتة وأنفحتها: هل هو طاهر أم نجس؟ والمطهرون احتجوا بأن الصحابة أكلوا جبن المجوس مع كون ذبائحهم ميتة، ومن خالفهم نازعهم كما هو مذكور في موضع آخر. وأما الجوخ، فقد حكى بعض الناس أنهم يدهنونه بشحم الخنزير، وقال بعضهم: أنه ليس يفعل هذا به كله، فإذا وقع الشك في عموم نجاسة الجوخ لم يحكم بنجاسة عينه، لإمكان أن تكون النجاسة لم تصبها؛ إذ العين طاهرة، ومتى شك في نجاستها، فالأصل الطهارة. ولو تيقنا نجاسة بعض أشخاص نوع دون بعض، لم نحكم بنجاسة جميع أشخاصه ولا بنجاسة ما شككنا في تنجسه، ولكن إذا تيقن النجاسة، أو قصد قاصد إزالة الشك، فغسل الجوخة يطهرها، فإن ذلك صوف أصابه دهن نجس. وأصابة البول والدم لثوب القطن والكتان أشد وهو به ألصق. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أصاب دم الحيض ثوبها:(حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء) وفي رواية: (ولا يضرك أثره). والله أعلم.
/ فأجاب: هذه المسألة فيها نزاع معروف بين العلماء، هل يعفي عن يسير بعر الفأر، ففي أحد القولين في مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما، أنه يعفي عن يسيره، فيؤكل ما ذكر، وهذا أظهر القولين. والله أعلم.
أما بعد، فقد كنا في مجلس التفقه في الدين، والنظر في مدارك الأحكام المشروعة تصويرًا وتقريرًا وتأصيلا وتفصيلا، فوقع الكلام في شرح القول في حكم منى الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة، وفي أرواث البهائم المباحة: أهى طاهرة أم نجسة؟ على وجه أحب أصحابنا تقييده، وما يقاربه من زيادة ونقصان، فكتبت لهم في ذلك، فأقول ولا حول ولا قوة إلا باللَّه. هذا مبنى على أصل، وفصلين. أما الأصل: /فاعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة ـ على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها ـ أن تكون حلالا مطلقًا للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها، ومماستها، وهذه كلمة جامعة، ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة، فيما لا يحصى من الأعمال. وحوادث الناس، وقد دل عليها أدلة عشرة ـ مما حضرنى ذكره من الشريعة ـ وهى: كتاب الله، وسنة رسوله، واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى: الصنف الأول: الكتاب، وهو عدة آيات. الآية الأولى قوله تعالى: الآية الثانية: قوله تعالى: أحدهما: أنه وبخهم وعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه قبل أن يحله باسمه الخاص، فلو لم تكن الأشياء مطلقة مباحة لم يلحقهم ذم ولا توبيخ؛ إذ لو كان حكمها مجهولا، أو كانت محظورة لم يكن ذلك. الوجه الثاني: أنه قال: الآية الثالثة: قوله تعالى: /الآية الرابعة: قوله تعالى: الصنف الثاني: السنة والذي حضرني منها حديثان: الحديث الأول: في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم المسلمين جرمًا من يسأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته). دل ذلك على أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص، لقوله: لم يحرم، ودل أن التحريم قد يكون لأجل المسألة، فبين بذلك أنها بدون ذلك ليست محرمة، وهو المقصود. الثاني: روى أبو داود في سننه عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه). فمنه دليلان: /أحدهما: أنه أفتى بالإطلاق فيه. الثاني: قوله: (وما سكت عنه فهو مما عفا عنه)، نص في أن ما سكت عنه فلا إثم عليه فيه، وتسميته هذا عفوًا كأنه ـ والله أعلم ـ لأن التحليل هو الإذن في التناول بخطاب خاص، والتحـريم المنع من التناول كذلك، والسكـوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه، ولم يمنع منه، فيرجع إلى الأصل، وهو ألا عقاب إلا بعد الإرسال، وإذا لم يكن فيه عقاب، لم يكن محرما وفي السنة دلائل كثيرة على هذا الأصل. الصنف الثالث: اتباع سبيل المؤمنين، وشهادة شهداء الله في أرضه الذين هم عدول الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، المعصومين من اجتماعهم على ضلالة، المفروض اتباعهم، وذلك أنى لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين: في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور. وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه، وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع يقينا أو ظنا كاليقين. فإن قيل: كيف يكون في ذلك إجماع، وقد علمت اختلاف الناس في الأعيان قبل مجيء الرسل، وإنزال الكتب، هل الأصل فيها الحظر أو الإباحة؟ أو لا يدرى ما الحكم فيها؟ أو أنه لا حكم لها أصلا؟ واستصحاب الحال دليل متبع، وأنه قد ذهب بعض من صنف في أصول/ الفقه من أصحابنا وغيرهم على أن حكم الأعيان الثابت لها قبل الشرع مستصحب بعد الشرع، وأن من قال: بأن الأصل في الأعيان الحظر استصحب هذا الحكم حتى يقوم دليل الحل. فأقول: هذا قول متأخر لم يؤثر أصله عن أحد من السابقين. ممن له قدم، وذلك أنه قد ثبت أنها بعد مجىء الرسل على الإطلاق، وقد زال حكم ذلك الأصل بالأدلة السمعية التي ذكرتها، ولست أنكر أن بعض من لم يحط علما بمدارك الأحكام، ولم يؤت تمييزًا في مظان الاشتباه، ربما سحب ذيل ما قبل الشرع على ما بعده. إلا أن هذا غلط قبيح لو نبه له لتنبه مثل الغلط في الحساب لا يهتك حريم الإجماع، ولا يثلم سنن الاتباع. ولقد اختلف الناس في تلك المسألة: هل هي جائزة أم ممتنعة؟ لأن الأرض لم تخل من نبى مرسل؛ إذ كان آدم نبيًا مكلمًا حسب اختلافهم في جواز خلو الأقطار عن حكم مشروع، وإن كان الصواب عندنا جوازه. ومنهم من فرضها فيمن ولد بجزيرة، إلى غير ذلك من الكلام الذي يبين لك ألا عمل بها، وأنها نظر محض ليس فيه عمل. كالكلام في مبدأ اللغات وشبه ذلك، على أن الحق الذي لا راد له/أن قبل الشرع لا تحليل ولا تحريم، فإذًا لا تحريم يستصحب ويستدام، فيبقى الآن كذلك، والمقصود خلوها عن المآثم والعقوبات. وأما مسلك الاعتبار بالأشباه والنظائر واجتهاد الرأى في الأصول الجوامع، فمن وجوه كثيرة ننبه على بعضها. أحدها: أن الله ـ سبحانه ـ خلق هذه الأشياء وجعل فيها للإنسان متاعا ومنفعة. ومنها ما قد يضطر إليه وهو ـ سبحانه ـ جواد ماجد كريم رحيم غنى صمد، والعلم بذلك يدل على العلم بأنه لا يعاقبه ولا يعذبه على مجرد استمتاعه بهذه الأشياء وهو المطلوب. وثانيها: أنها منفعة خالية عن مضرة فكانت مباحة كسائر ما نص على تحليله، وهذا الوصف قد دل على تعلق الحكم به النص وهو قوله: وثالثها: أن هذه الأشياء إما أن يكون لها حكم أولا يكون،/ والأول صواب، والثاني باطل بالاتفاق، وإذا كان لها حكم، فالوجوب والكراهة والاستحباب معلومة البطلان بالكلية؛ لم يبق إلا الحل. والحرمة باطلة لانتفاء دليلها نصًا واستنباطًا، لم يبق إلا الحل وهو المطلوب. إذا ثبت هذا الأصل فنقول: الأصل في الأعيان الطهارة لثلاثة أوجه: أحدها: أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة. والنجس بخلافه، وأكثر الأدلة السالفة تجمع جميع وجوه الانتفاع بالأشياء: أكلا وشربًا ولبسًا ومسًا وغير ذلك، فثبت دخول الطهارة في الحل، وهو المطلوب، والوجهان الآخران نافلة. الثاني: أنه إذا ثبت أن الأصل جوازا أكلها وشربها فلأن يكون الأصل ملابستها ومخالطتها الخلق أولى وأحرى، وذلك لأن الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصرًا له، فإذا كان خبيثًا صار البدن خبيثًا فيستوجب النار؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به). والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب. وأما ما يماس البدن ويباشره فيؤثر ـ أىضًا ـ في البدن من ظاهر كتأثير الأخباث في أبداننا وفي ثيابنا المتصلة بأبداننا، لكن تأثيرها دون تأثير المخالط الممازج. فإذا حل مخالطة الشيء وممازجته، فحل/ملابسته ومباشرته أولى. وهذا قاطع لا شبهة فيه. وطرد ذلك أن كل ما حرم مباشرته وملابسته، حرم مخالطته وممازجته، ولا ينعكس. فكل نجس محرم الأكل، وليس كل محرم الأكل نجسًا. وهذا في غاية التحقيق. الوجه الثالث: أن الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك. فإنه غاية المتقابلات. تجد أحد الجانبين فيها محصورًا مضبوطًا والجانب الآخر مطلق مرسل والله ـ تعالى ـ الهادي للصواب.
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة: الدليل الأول: أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة. أما الركن الأول من الدليل، فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة. وأما الثاني فنقول: إن المنفي على /ضربين: نفي نحصره ونحيط به، كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان، وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة، وأن محمدًا لا نبي بعده، بل علمنا أنه لا إله إلا الله، وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن، وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان، وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قبل ولا تغير، وأنه لم يطعم، وأنه البارحة لم ينم، وغير ذلك مما يطول عده، فهذا كله نفي مستيقن يبين خطأ من يطلق قوله: لا تقبل الشهادة على النفي. الثاني: ما لا يستيقن نفيه وعدمه. ثم منه ما يغلب على القلب ويقوى في الرأى، ومنه ما لا يكون كذلك. فإذا رأينا حكمًا منوطًا بنفي من الصنف الثاني، فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا. والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم. فإذا بحثنا وسبرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مئات من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة. شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا ألا دليل إلا ذلك. فنقول: الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة،/ونقض ذلك. وقد احتج لذلك بمسلكين: أثرى ونظرى: أما الأثري: فحديث ابن عباس المخرج في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول) وروى: (لا يستنزه ـ) والبول اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم. كالإنسان في قوله: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بالعذاب من جنس البول، وجب الاحتراز والتنزه من جنس البول، فيجمع ذلك أبوال جميع الدواب، والحيوان الناطق، والبهيم، ما يؤكل وما لا يؤكل، فيدخل بول الأنعام في هذا العموم، وهو المقصود. وهذا قد اعتمد عليه بعض من يدعى الاستدلال بالسمع، وبعض الرأى، وارتضاه بعض من يتكايس، وجعله مفزعًا وموئلاً. /المسلك الثاني النظري: وهو من ثلاثة أوجه: أحدها: القياس على البول المحرم فنقول: بول، وروث، فكان نجسًا كسائر الأبوال، فيحتاج هذا القياس أن يبين أن مناط الحكم في الأصل هو أنه بول وروث، وقد دل على ذلك تنبيهات النصوص مثل قوله: (اتقـوا البول) وقوله: (كان بنـو إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض). والمناسبة ـ أيضًا ـ: فإن البول والروث مستخبث مستقذر، تعافه النفوس، على حد يوجب المباينة، وهذا يناسب التحريم، حملا للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأحوال، وقد شهد له بالاعتبار تنجس أرواث الخبائث. الثاني: أن نقول: إذا فحصنا وبحثنا عن الحد الفاصل بين النجاسات والطهارات، وجدنا ما استحال في أبدان الحيوان عن أغذيتها، فما صار جزءًا فهو طيب الغذاء، وما فضل فهو خبيثه؛ ولهذا يسمى رجيعًا. كأنه أخذ ثم رجع أى رد. فما كان من الخبائث يخرج من الجانب الأسفل: كالغائط والبول والمني والوذي والودي، فهو نجس. وما خرج من الجانب الأعلى: كالدمع والريق والبصاق والمخاط ونخامة الرأس، فهو طاهر. وما تردد كبلغم المعدة ففيه تردد. /وهذا الفصل بين ما خرج من أعلى البدن، وأسفله، قد جاء عن سعيد بن المسيب ونحوه، وهو كلام حسن في هذا المقام الضيق. الذي لم يفقه كل الفقه، حتى زعم زاعمون أنه تعبد محض وابتلاء، وتمييز بين من يطيع وبين من يعصى. وعندنا أن هذا الكلام لا حقيقة له بمفرده، حتى يضم إليه أشياء أخر، فَرَّق من فَرَّق بين ما استحال في معدة الحيوان كالروث والقىء وما استحال من معدته كاللبن. وإذا ثبت ذلك، فهذه الأبوال والأرواث مما يستحيل في بدن الحيوان، وينصع طيبه، ويخرج خبيثه من جهة دبره وأسفله، ويكون نجسا. فإن فرق بطيب لحم المأكول، وخبث لحم المحرم، فيقال: طيب الحيوان وشرفه وكرمه لا يوجب طهارة روثه، فإن الإنسان إنما حرم لحمه كرامة له وشرفا، ومع ذلك فبوله أخبث الأبوال. ألا ترى أنكم تقولون: إن مفارقة الحياة لا تنجسه، وأن ما أبين منه ـ وهو حى فهو طاهر ـ أيضًا كما جاء في الأثر ـ وإن لم يؤكل لحمه ـ فلو كان إكرام الحيوان موجبًا لطهارة روثه، لكان الإنسان في ذلك القدح المعلى. وهذا سر المسألة ولبابها. الوجه الثالث: أنه في الدرجة السفلى من الاستخباث، والطبقة/ النازلة من الاستقذار. كما شهد به أنفس الناس، وتجده طبائعهم وأخلاقهم، حتى لا نكاد نجد أحدًا ينزله منزلة در الحيوان ونسله، وليس لنا إلا طاهر، أو نجس. وإذا فارق الطهارات، دخل في النجاسات، والغالب عليه أحكام النجاسات ـ من مباعدته ومجانبته ـ فلا يكون طاهرًا؛ لأن العين إذا تجاذبتها الأصول، لحقت بأكثرها شبهًا، وهو متردد بين اللبن وبين غيره من البول، وهو بهذا أشبه. ويقـوى هـذا أنـه قـال تعالى: فالوجه الأول: قياس التمثيل وتعليق الحكم بالمشترك المدلول عليه. /والثاني: قياس التعليل بتنقيح مناط الحكم وضبط أصل كلي. والثالث: التفريق بينه وبين جنس الطاهرات فلا يجوز إدخاله فيها، فهذه أنواع القياس: أصل ووصل وفصل. فالوجه الأول: هو الأصل، والجمع بينه وبين غيره من الأخباث. والثاني: هو الأصل والقاعدة، والضابط الذي يدخل فيه. والثالث: الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات، وهو قياس العكس فالجواب عن هذه الحجج، والله المستعان. أما المسلك الأول: فضعيف جدًا لوجهين: أحدهما: أن اللام في البول للتعريف، فتفيد ما كان معروفًا عند المخاطبين، فإن كان المعروف واحدًا معهودًا فهو المراد. وما لم يكن ثم عهد بواحد، أفادت الجنس؛ إما جميعه على المرتضى، أو مطلقه على رأي بعض الناس، وربما كانت كذلك. وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فأما إذا كان ثَمَّ شيء معهود مثل قوله تعالى: فإن الحقائق ثلاثة: عامة، وخاصة، ومطلقة. فإذا قلت: الإنسان، قد تريد جميع الجنس، وقد تريد مطلق/ الجنس، وقد تريد شيئًا بعينه من الجنس. فأما الجنس العام، فوجوده في القلوب والنفوس علمًا ومعرفة وتصورا. وأما الخاص من الجنس: مثل زيد وعمرو، فوجوده هو حيث حل، وهو الذي يقال له وجود في الأعيان، وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصًا متميزا. وأما الجنس المطلق مثل الإنسان المجرد عن عموم وخصوص، الذي يقال له نفس الحقيقة، ومطلق الجنس، فهذا كما لا يتقيد في نفسه، لا يتقيد بمحله، إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب، فتجعل محلا له بهذا الاعتبار، وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظًا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها. فإذا تبين هذا، فقوله: فإنه كان لا يستنزه من البول، بيان للبول المعهود، وهو الذي كان يصيبه، وهو بول نفسه. يدل على هذا ـ أيضًا ـ سبعة أوجه: أحدها: ما روى، (فإنه كان لا يستبرئ من البول) والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه؛ لأنه طلب براءة الذكر، كاستبراء الرحم من الولد. /الثاني: أن اللام تعاقب الإضافة، فقوله: (من البول) كقوله: من بوله، وهذا مثل قوله: الثالث: أنه قد روى هذا الحديث من وجوه صحيحة: (فكان لا يستتر من بوله) وهذا يفسر تلك الرواية. ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر: عن منصور، روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس. ومعلوم أن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين، والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أنهم رووه بالمعنى، ولم يبن أى اللفظين هو الأصل. ثم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال اللفظين، مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقًا لمعنى الآخر، ويجوز أن يكون مخالفًا، فالظاهر الموافقة. يبين هذا أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، ومعلوم أنها قضية واحدة. الرابع: أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه، ولا يستتر منه. ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه. الخامس: أن الحسن قال: البول كله نجس، وقال ـ أيضًا ـ: لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان. /السادس: أن هذا هو المفهوم للسامع عند تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح، فإنه لا يفهم من قوله: فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه. ولو قيل: إنه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال: من بول بعير، وشاة وثور، لكان صدقًا. السابع: أنه يكفي بأن يقال: إذا احتمل أن يريد بول نفسه؛ لأنه المعهود، وأن يريد جميع جنس البول، لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل، فيقف الاستدلال. وهذا ـ لعمرى ـ تنزل، وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر، من أنه يجب حمله على البول المعهود، وهو نوع من أنواع البول، وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبًا، ويترشرش على أفخاذه وسوقه، وربما استهان بإنقائه، ولم يحكم الاستنجاء منه. فأما بول غيره من الأدميين، فإن حكمه ـ وإن ساوى حكم بول نفسه ـ فليس ذلك من نفس هذه الكلمة، بل لاستوائهما في الحقيقة، والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم. ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره، ولو أصابه لساءه ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث، وهو قوله: (اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه) فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحدًا من الناس، وهذا بين لا خفاء به. /الوجه الثاني: أنه لو كان عامًا في جميع الأبوال، فسوف نذكر من الأدلة الخاصة على طهارة هذا النوع ما يوجب اختصاصه من هذا الاسم العام. ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى؛ لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار، والعمل به ترك لبعض معانى العام، وليس استعمال العام وإرادة الخاص ببدع في الكلام، بل هو غالب كثير. ولو سلمنا التعارض على التساوي من هذا الوجه، فإن في أدلتنا من الوجوه الموجبة للتقديم والترجيح وجوها أخرى من الكثرة والعمل، وغير ذلك مما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى.ومن عجيب ما اعتمد عليه بعضهم، قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثر عذاب القبر من البول). والقول فيه كالقول فيما تقدم ـ مع أنا نعلم إصابة الإنسان بول غيره قليل نادر، وإنما الكثير إصابته بول نفسه. ولو كان أراد أن يدرج بوله في الجنس الذي يكثر وقوع العذاب بنوع منه، لكان بمنزلة قوله أكثر عذاب القبر من النجاسات. واعتمد ـ أيضًا ـ على قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) يعنى البـول والنجـو. وزعـم أن هذا يفيد تسمية كل بول ونجو أخبث، /والأخبث حرام نجس، وهذا في غاية السقوط؛ فإن اللفظ ليس فيه شمول لغير ما يدافع أصلا. وقوله: إن الاسم يشمل الجنس كله. فيقال له: وما الجنس العام؟ أكل بول ونجو؟ أم بول الإنسان ونجوه؟ وقد علم أن الذي يدافع كل شخص من جنس الذي يدافع غيره، فأما ما لا يدافع أصلا، فلا مدخل له في الحديث، فهذه عمدة المخالف. وأما المسلك النظري: فالجواب عنه من طريقين: مجمل، ومفصل. أما المفصل فالجواب عن الوجه الأول من وجهين: أحدهما: لا نسلم أن العلة في الأصل أنه بول وروث، وما ذكروه من تنبيه النصوص، فقد سلف الجـواب بأن المراد بها بـول الإنسان. ومـا ذكروه مـن المناسبة فنقول: التعليل: إما أن يكون بجنس استخباث النفس واستقذارها، أو بقدر محدود من الاستخباث والاستقذار. فإن كان الأول، وجب تنجيس كل مستخبث مستقذر، فيجب نجاسة المخاط والبصاق والنخامة، بل نجاسة المني الذي جاء الأثر بإماطته من الثياب، بل ربما نفرت النفوس عن بعض هذه الأشياء أشد من نفورها عن أرواث المأكول من البهائم، مثل مخطة المجذوم إذا اختلطت/ بالطعام، ونخامة الشيخ الكبير إذا وضعت في الشراب، وربما كان ذلك مدعاة لبعض الأنفس إلى أن يذرعه القيء. وإن كان التعليل بقدر موقت من الاستقذار، فهذا قد يكون حقًا لكن لابد من بيان الحد الفاصل بين القدر من الاستخباث الموجب للتنجيس، وبين ما لا يوجب، ولم يبين ذلك، ولعل هذه الأعيان مما ينقض بيان استقذارها الحد المعتبر. ثم إن التقديرات في الأسباب والأحكام إنما تعلم من جهة استقذارها عن الشرع في الأمـر الغالب، فنقـول: متى حكم بنجاسة نوع علمنا أنه مما غلظ استخباثه، ومتى لم يحكم بنجاسة نوع، علمنا أنه لم يغلظ استخباثه فنعود مستدلين بالحكم على المعتبر من العلة، فمتى استربنا في الحكم فنحن في العلة أشد استرابة، فبطل هذا. وأما الشاهد بالاعتبار، فكما أنه شهد لجنس الاستخباث، شهد للاستخباث الشديد، والاستقذار الغليظ. وثانيهما: أن نقـول: لم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل أنه بول ما يؤكل لحمه؟ وهـذه علة مطـردة بالإجماع منا ومـن المخالفـين لنا في هـذه المسألـة والانعكـاس ـ إن لم يكـن واجبًا ـ فقـد حصل الغـرض. وإن كـان شـرطًا في العـلل، فنقـول فيه ما قالوا في اطراد العلة وأولى، حيث خولفوا فيه /وعدم الانعكاس أيسر من عدم الاطراد. وإذا افترق الصنفان في اللحم والعظم واللبن والشعر، فلم لا يجوز افتراقهما في الروث الروث والبول، وهـذه المناسبـة أبين ؟ فإن كل واحد من هذه الأجزاء هو بعض من أبعاض
|